يمرالاقتصاد العالمي منذ بداية سنة 2020 بأزمة غير مسبوقة لم نشهدها الا ما كتب لنا و شهده العالم في أزمة الكساد الكبير في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، أو ما قبلها. تسبَّبت جائحة(كوفيد-19) في توقف النشاط الاقتصادي العالمي على الرغم من الإجراءات التحفيزية الاقتصادية التي اتخذها الحكومات لتقليل من وطأ الصدمة. ومع ذلك فانه من المرجح أن يظل الكساد الذي أوجدته الجائحة عقبة أمام الاقتصاد الدولي لسنوات مقبلة. وليس بالامكان تحديد المسار الذي سينتجه الاقتصاد العالمي في سعيه الى التعافي، لأنه يرتبط بشكل رئيسي بطول أمد استمرار فيروس كورونا كتهديد عالمي.
إن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مهددة في اقتصاداتها بحجم كبير، نتيجة اعتمادها بشكل كبير على إيراداتها من تصدير السلع الأولية ومصادر الطاقة. ومع تراجع الطلب العالمي على هذه المنتجات بسبب تراجع النشاط الاقتصادي العالمي، تظل اقتصادات دول المنطقة موضع تهديد، ويبقى مستقبلها محل شك وتساؤل كبيرين.
أنتجت الأزمة الوبائية الحالية بسبب عمقها وشدتها انكماشا في الاقتصادات النامية والصاعدة، رغم تسجيلها لمعدلات نمو كانت هي الأعلى عالميا قبيل سنة2020، وحافظت على توازنها في ظل الحروب التجارية بين الاقتصادات الكبرى، وحجم الديون المتراكمة و تراجع أسعار المواد الأولية .
وحسب تقديرات البنك الدولي، فإنه من المتوقع أن يصل انكماش الاقتصاد العالـمي الى معدل -5.2% في عام 2020، وهو الانكماش الأكبر حجما من سابقه خلال فترة الحرب العالمية الثانية. ويتوقع أن يكون الانكماش الأعمق من نصيب اقتصادات الدول المتقدمة بمعدل -7%، بينما ستنكمش اقتصادات الدول النامية والصاعدة بمعدل -2.5%. وعلى مستوى التوزيع الجغرافي، فإن جميع مناطق العالم، عدا منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، مرشحة للانكماش. ويُرجح أن تشهد منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي الانكماش الأعمق عالميا، حيث سيتقلص ناتجها المحلي الإجمالي بنحو 7.2.
واستنادا الى ماسبق فإنه من المتوقع أيضا أن ينكمش اقتصاد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمعدل -4.2% في عام 2020. ويعود ذلك إلى عاملين أساسيين، هما: تراجع الطلب العالمي على النفط، ولا سيما خلال الربع الثاني من العام، وقد أدى ذلك إلى انخفاض أسعار النفط بنحو 50%، ووصولها إلى أدنى مستوى في أكثر من 20 عاما. ونتيجة لأهمية الاقتصادات المصدرة للنفط، باعتبارها الكتلة المرجحة في اقتصادات المنطقة، فإن تراجع الإيرادات النفطية يمثل تحديا بالنسبة لها، وسببا في تراجع الناتج المحلي لقطاعها النفطي ككل.
أما العامل الآخر وهو الأكثر تأثيرا على الأداء الاقتصادي بدول المنطقة يتعلق بالانكماش العميق لقطاعها غير النفطي. فعلى سبيل المثال، فبالرغم من أن تراجع أسعار النفط سيقلص معدلات نمو القطاع النفطي بدول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 2.7%، وفق تقديرات البنك الدولي؛ فإن تأثير الأزمة سيكون أكثر إيلاما على القطاع غير النفطي، الذي سيتراجع نموه بدول المجلس بنسبة 4.3%. وتنطبق هذه التوقعات بشكل أو بآخر على الدول غير الأعضاء بالمجلس، ويشير ذلك إلى حقيقة وعمق التأثير السلبي للأزمة الراهنة على مختلف جوانب الأنشطة الاقتصادية للدول.
وتواجه الأوضاع المالية للمنطقة تحديًا إضافيا يُثقل كاهل موازناتها خلال عام 2020، بسبب حلول آجال استحقاق ديون سيادية خارجية على دولها، بقيمة 35 مليار دولار. وبرغم أن بعض هذه الدول قد تستفيد من المبادرات التي تبنتها المؤسسات الدولية، ومجموعة العشرين والدول الدائنة، بشأن تأجيل تحصيل الديون المستحقة على الدول الأشد فقرا؛ لكن هناك قيودًا تحكم ذلك، القيد الأول يتعلق بأن استفادة دول المنطقة من المبادرة تظل مشروطة بموافقة الدائنين المباشرين لكل منها، وهو أمر لا يمكن الجزم بحدوثه، لا سيما وأن مبادرة تأجيل الديون ليست ملزمة للدائنين.
ويتعلق القيد الثاني بقدرة اقتصادات المنطقة على تحمل المزيد من الديون، لا سيما وأن بعضها دخل في مفاوضات للحصول على قروض جديدة، لمجابهة التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا، وحصل بعضها بالفعل على قروض، ويتوقع أن يحصل المزيد منها على قروض أخرى. بجانب ذلك، فقد توسع العديد منها في الاستدانة عبر إصدارات السندات الجديدة. وهذا التوجه يساهم في مفاقمة أزمة ديون المنطقة، كونه يضع أعباء جديدةً على موازناتها العامة، ويثقل كاهل اقتصاداتها بالتزامات خدمة ديون جديدة، تدفع إلى تأخر تعافيها، عبر سحب المزيد من السيولة النقدية من دورتها الاقتصادية، ويضغط على عملاتها المحلية، ولا سيما الدول التي تتبع سياسة سعر صرف مرنة.
يمكن تحديد المسارات المستقبلية لاقتصاد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتحليل عديد المؤشرات، فإذا كانت قوة التحمل الداخلي لكل اقتصاد تُمثل العامل الحاسم في تعافيه من أي أزمة، إلا أن الأمر مختلف نسبيا في ظل الأزمة الراهنة، باعتبارها أزمة اقتصادية عالمية ذات أبعاد عديدة ومعقدة، وتمثل تبعاتها الاقتصادية، ولا سيما على صعيد تقييد حركة التجارة وتأثيرها السلبي على حركة رؤوس الأموال، مصدرًا رئيسيا لتهديد مقومات نمو الاقتصادات النامية والصاعدة، لأهمية هذين الأمرين بالنسبة للأداء الاقتصادي لتلك الدولة، بما في ذلك دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إن استمرار الجائحة ولفترة طويلة على مستوى المنطقة، أو لدى شركائها التجاريين الرئيسيين؛ إلى تعطل الإنتاج لفترات ممتدة، واتساع دائرة تأثيراتها السلبية على سلاسل الإمداد، وانهيار مستويات الثقة والطلب بدرجة أكبر. ولأن دول الشرق الأوسط -في معظمها- تعد منتجة ومصدرة للسلع الأولية ومصادر الطاقة، فإن هذه التطورات تُبقي على فرص نمو الطلب العالمي على تلك المنتجات في حدودها الدنيا.
و من الأضرار أيضا هو تأثر الحالة المزاجية و معنويات المستثمرين أمام قدرة تحمل المخاطر المالية، وقد ينتج عن ذلك انخفاض حاد في التدفقات الرأسمالية العالمية والمحلية، ولا سيما تدفقات حافظة الأوراق المالية التي تتأثر كثيرا بمزاج المستثمرين. وتشير توقعات البنك الدولي إلى أن رؤوس الأموال المتوقع أن تتدفق على المنطقة في ظل الأزمة، ستنخفض بمقدار 100 مليار دولار، أو ما نسبته 3% من الناتج المحلي الإجمالي، ويفوق هذا القدر من التراجع مجموع تدفقات استثمارات حافظة الأوراق المالية التي وردت إلى المنطقة خلال عام 2019.
ومن المحتمل أيضا أن نشهد نزوح رؤوس الأموال الموجودة بالفعل في اقتصادات المنطقة، ضمن موجة عالمية لنزوح رؤوس الأموال من الاقتصادات النامية والصاعدة. ومن شأن ذلك أن يفاقم الأزمة الاقتصادية في دول المنطقة، كونه يدفع في النهاية إلى انخفاض الاستثمار والإنتاج، وزيادة البطالة، وبالتالي دفع الاقتصادات إلى الكساد، ولقد شهد العالم تجارب مماثلة في الماضي، لا سيما إبان أزمة "الكساد الكبير"، عندما نزحت الأموال الأمريكية إلى خارج ألمانيا، ما أدى في النهاية إلى أن أصبح الكساد في ألمانيا لا يقل حدة عنه في الولايات المتحدة.
إن نزوح رؤوس الأموال سيفرض ضغوطا على موازين المدفوعات في دول المنطقة، ولا سيما غير المصدرة للنفط، ويثقل كاهل الموازنة التي ستكون ملزمة بتحمل أعباء خدمة الديون الخارجية بالعملات الأجنبية، وكل ذلك من شأنه أن يدفع نحو تعديل مربك لأسعار الصرف، ولا سيما في البلدان ذات الهوامش المالية الوقائية الضيقة، والأسس الاقتصادية والمالية الضعيفة.
ومن المخاطر التي تهدد المنطقة العربية أيضا، هي حالة القلق وعزوف المستثمرين عن تحمل المخاطرة مما سيمنع التدفقات المالية عن الصناعات المحلية والأنشطة الاقتصادية الحقيقية، حيث ستذهب النسبة الأكبر من القروض الممنوحة إلى الحكومات والشركات العامة، وسيكون المستثمرون أكثر تفضيلا لشراء السندات السيادية، لتوفر الضمانات الحكومية عليها، بينما تصبح سندات الشركات الصناعية، والشركات الخاصة عموما، وأسهمها في أسواق المال أقل طلبا.
ومن المنتظر أيضا أن يؤدي طول أمد الأزمة، الى ارتفاع في نسب البطالة، وتقلص حجم الإنفاق الاستهلاكي والطلب الفعال، وقد تمتد تبعات ذلك إلى القطاعات المصرفية، التي ستتعرض إلى ضغوط نتيجة القروض الممنوحة للأسر والقطاعات المتضررة من الأزمة، حيث ستتزايد احتمالات التخلف عن السداد، الأمر الذي يعرض البنوك والمؤسسات المالية، ولا سيما التي لا تقدر على تحمل الضغوط المالية الشديدة، الى افلاس البعض منها .
و في الأخير، نشير إلى أن هذه التقديرات لا تنطبق على دول العربية فقط، بل إنها تنطبق على جميع المناطق التي تتركز فيها الدول المصدرة للمواد الأولية وصاحبة المديونيات الكبيرة. وجميع التوقعات المتعلقة بمستقبل أداء تلك الاقتصادات ستخضع للمراجعات وبشكل مستمر خلال الفترات المقبلة، وأن معظم المراجعات ستكون في اتجاه تخفيض معدلات النمو المتوقع، وتمديد الفترات اللازمة للتعافي.
ويظل كل ذلك محكوما بأمور تتعلق بمستوى الكفاءة على صعيد السياسات الاقتصادية، التي قد يتشابه دورها هنا مع دور السياسات الصحية التي عملت في بدايات أزمة كورونا على تسطيح منحنى الإصابات الجديدة بالفيروس قدر الإمكان، وتعزيز قدر الأنشطة الصحية من أجل تجنب فشلها في تحمل الضغوط، إلى أن يأخذ تفشي الفيروس في الانحسار. والأمر هنا أيضا يتعلق بقدرة السياسات الاقتصادية على تسطيح منحنى الأزمات المالية والنقدية الداخلية، وتعزيز قدرة الاقتصاد المحلي على تحمل الضغوط، إلى أن تصبح الأزمة الاقتصادية العالمية في الانحسار.
يمرالاقتصاد العالمي منذ بداية سنة 2020 بأزمة غير مسبوقة لم نشهدها الا ما كتب لنا و شهده العالم في أزمة الكساد الكبير في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، أو ما قبلها. تسبَّبت جائحة(كوفيد-19) في توقف النشاط الاقتصادي العالمي على الرغم من الإجراءات التحفيزية الاقتصادية التي اتخذها الحكومات لتقليل من وطأ الصدمة. ومع ذلك فانه من المرجح أن يظل الكساد الذي أوجدته الجائحة عقبة أمام الاقتصاد الدولي لسنوات مقبلة. وليس بالامكان تحديد المسار الذي سينتجه الاقتصاد العالمي في سعيه الى التعافي، لأنه يرتبط بشكل رئيسي بطول أمد استمرار فيروس كورونا كتهديد عالمي.
إن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مهددة في اقتصاداتها بحجم كبير، نتيجة اعتمادها بشكل كبير على إيراداتها من تصدير السلع الأولية ومصادر الطاقة. ومع تراجع الطلب العالمي على هذه المنتجات بسبب تراجع النشاط الاقتصادي العالمي، تظل اقتصادات دول المنطقة موضع تهديد، ويبقى مستقبلها محل شك وتساؤل كبيرين.
أنتجت الأزمة الوبائية الحالية بسبب عمقها وشدتها انكماشا في الاقتصادات النامية والصاعدة، رغم تسجيلها لمعدلات نمو كانت هي الأعلى عالميا قبيل سنة2020، وحافظت على توازنها في ظل الحروب التجارية بين الاقتصادات الكبرى، وحجم الديون المتراكمة و تراجع أسعار المواد الأولية .
وحسب تقديرات البنك الدولي، فإنه من المتوقع أن يصل انكماش الاقتصاد العالـمي الى معدل -5.2% في عام 2020، وهو الانكماش الأكبر حجما من سابقه خلال فترة الحرب العالمية الثانية. ويتوقع أن يكون الانكماش الأعمق من نصيب اقتصادات الدول المتقدمة بمعدل -7%، بينما ستنكمش اقتصادات الدول النامية والصاعدة بمعدل -2.5%. وعلى مستوى التوزيع الجغرافي، فإن جميع مناطق العالم، عدا منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، مرشحة للانكماش. ويُرجح أن تشهد منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي الانكماش الأعمق عالميا، حيث سيتقلص ناتجها المحلي الإجمالي بنحو 7.2.
واستنادا الى ماسبق فإنه من المتوقع أيضا أن ينكمش اقتصاد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمعدل -4.2% في عام 2020. ويعود ذلك إلى عاملين أساسيين، هما: تراجع الطلب العالمي على النفط، ولا سيما خلال الربع الثاني من العام، وقد أدى ذلك إلى انخفاض أسعار النفط بنحو 50%، ووصولها إلى أدنى مستوى في أكثر من 20 عاما. ونتيجة لأهمية الاقتصادات المصدرة للنفط، باعتبارها الكتلة المرجحة في اقتصادات المنطقة، فإن تراجع الإيرادات النفطية يمثل تحديا بالنسبة لها، وسببا في تراجع الناتج المحلي لقطاعها النفطي ككل.
أما العامل الآخر وهو الأكثر تأثيرا على الأداء الاقتصادي بدول المنطقة يتعلق بالانكماش العميق لقطاعها غير النفطي. فعلى سبيل المثال، فبالرغم من أن تراجع أسعار النفط سيقلص معدلات نمو القطاع النفطي بدول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 2.7%، وفق تقديرات البنك الدولي؛ فإن تأثير الأزمة سيكون أكثر إيلاما على القطاع غير النفطي، الذي سيتراجع نموه بدول المجلس بنسبة 4.3%. وتنطبق هذه التوقعات بشكل أو بآخر على الدول غير الأعضاء بالمجلس، ويشير ذلك إلى حقيقة وعمق التأثير السلبي للأزمة الراهنة على مختلف جوانب الأنشطة الاقتصادية للدول.
وتواجه الأوضاع المالية للمنطقة تحديًا إضافيا يُثقل كاهل موازناتها خلال عام 2020، بسبب حلول آجال استحقاق ديون سيادية خارجية على دولها، بقيمة 35 مليار دولار. وبرغم أن بعض هذه الدول قد تستفيد من المبادرات التي تبنتها المؤسسات الدولية، ومجموعة العشرين والدول الدائنة، بشأن تأجيل تحصيل الديون المستحقة على الدول الأشد فقرا؛ لكن هناك قيودًا تحكم ذلك، القيد الأول يتعلق بأن استفادة دول المنطقة من المبادرة تظل مشروطة بموافقة الدائنين المباشرين لكل منها، وهو أمر لا يمكن الجزم بحدوثه، لا سيما وأن مبادرة تأجيل الديون ليست ملزمة للدائنين.
ويتعلق القيد الثاني بقدرة اقتصادات المنطقة على تحمل المزيد من الديون، لا سيما وأن بعضها دخل في مفاوضات للحصول على قروض جديدة، لمجابهة التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا، وحصل بعضها بالفعل على قروض، ويتوقع أن يحصل المزيد منها على قروض أخرى. بجانب ذلك، فقد توسع العديد منها في الاستدانة عبر إصدارات السندات الجديدة. وهذا التوجه يساهم في مفاقمة أزمة ديون المنطقة، كونه يضع أعباء جديدةً على موازناتها العامة، ويثقل كاهل اقتصاداتها بالتزامات خدمة ديون جديدة، تدفع إلى تأخر تعافيها، عبر سحب المزيد من السيولة النقدية من دورتها الاقتصادية، ويضغط على عملاتها المحلية، ولا سيما الدول التي تتبع سياسة سعر صرف مرنة.
يمكن تحديد المسارات المستقبلية لاقتصاد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتحليل عديد المؤشرات، فإذا كانت قوة التحمل الداخلي لكل اقتصاد تُمثل العامل الحاسم في تعافيه من أي أزمة، إلا أن الأمر مختلف نسبيا في ظل الأزمة الراهنة، باعتبارها أزمة اقتصادية عالمية ذات أبعاد عديدة ومعقدة، وتمثل تبعاتها الاقتصادية، ولا سيما على صعيد تقييد حركة التجارة وتأثيرها السلبي على حركة رؤوس الأموال، مصدرًا رئيسيا لتهديد مقومات نمو الاقتصادات النامية والصاعدة، لأهمية هذين الأمرين بالنسبة للأداء الاقتصادي لتلك الدولة، بما في ذلك دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إن استمرار الجائحة ولفترة طويلة على مستوى المنطقة، أو لدى شركائها التجاريين الرئيسيين؛ إلى تعطل الإنتاج لفترات ممتدة، واتساع دائرة تأثيراتها السلبية على سلاسل الإمداد، وانهيار مستويات الثقة والطلب بدرجة أكبر. ولأن دول الشرق الأوسط -في معظمها- تعد منتجة ومصدرة للسلع الأولية ومصادر الطاقة، فإن هذه التطورات تُبقي على فرص نمو الطلب العالمي على تلك المنتجات في حدودها الدنيا.
و من الأضرار أيضا هو تأثر الحالة المزاجية و معنويات المستثمرين أمام قدرة تحمل المخاطر المالية، وقد ينتج عن ذلك انخفاض حاد في التدفقات الرأسمالية العالمية والمحلية، ولا سيما تدفقات حافظة الأوراق المالية التي تتأثر كثيرا بمزاج المستثمرين. وتشير توقعات البنك الدولي إلى أن رؤوس الأموال المتوقع أن تتدفق على المنطقة في ظل الأزمة، ستنخفض بمقدار 100 مليار دولار، أو ما نسبته 3% من الناتج المحلي الإجمالي، ويفوق هذا القدر من التراجع مجموع تدفقات استثمارات حافظة الأوراق المالية التي وردت إلى المنطقة خلال عام 2019.
ومن المحتمل أيضا أن نشهد نزوح رؤوس الأموال الموجودة بالفعل في اقتصادات المنطقة، ضمن موجة عالمية لنزوح رؤوس الأموال من الاقتصادات النامية والصاعدة. ومن شأن ذلك أن يفاقم الأزمة الاقتصادية في دول المنطقة، كونه يدفع في النهاية إلى انخفاض الاستثمار والإنتاج، وزيادة البطالة، وبالتالي دفع الاقتصادات إلى الكساد، ولقد شهد العالم تجارب مماثلة في الماضي، لا سيما إبان أزمة "الكساد الكبير"، عندما نزحت الأموال الأمريكية إلى خارج ألمانيا، ما أدى في النهاية إلى أن أصبح الكساد في ألمانيا لا يقل حدة عنه في الولايات المتحدة.
إن نزوح رؤوس الأموال سيفرض ضغوطا على موازين المدفوعات في دول المنطقة، ولا سيما غير المصدرة للنفط، ويثقل كاهل الموازنة التي ستكون ملزمة بتحمل أعباء خدمة الديون الخارجية بالعملات الأجنبية، وكل ذلك من شأنه أن يدفع نحو تعديل مربك لأسعار الصرف، ولا سيما في البلدان ذات الهوامش المالية الوقائية الضيقة، والأسس الاقتصادية والمالية الضعيفة.
ومن المخاطر التي تهدد المنطقة العربية أيضا، هي حالة القلق وعزوف المستثمرين عن تحمل المخاطرة مما سيمنع التدفقات المالية عن الصناعات المحلية والأنشطة الاقتصادية الحقيقية، حيث ستذهب النسبة الأكبر من القروض الممنوحة إلى الحكومات والشركات العامة، وسيكون المستثمرون أكثر تفضيلا لشراء السندات السيادية، لتوفر الضمانات الحكومية عليها، بينما تصبح سندات الشركات الصناعية، والشركات الخاصة عموما، وأسهمها في أسواق المال أقل طلبا.
ومن المنتظر أيضا أن يؤدي طول أمد الأزمة، الى ارتفاع في نسب البطالة، وتقلص حجم الإنفاق الاستهلاكي والطلب الفعال، وقد تمتد تبعات ذلك إلى القطاعات المصرفية، التي ستتعرض إلى ضغوط نتيجة القروض الممنوحة للأسر والقطاعات المتضررة من الأزمة، حيث ستتزايد احتمالات التخلف عن السداد، الأمر الذي يعرض البنوك والمؤسسات المالية، ولا سيما التي لا تقدر على تحمل الضغوط المالية الشديدة، الى افلاس البعض منها .
و في الأخير، نشير إلى أن هذه التقديرات لا تنطبق على دول العربية فقط، بل إنها تنطبق على جميع المناطق التي تتركز فيها الدول المصدرة للمواد الأولية وصاحبة المديونيات الكبيرة. وجميع التوقعات المتعلقة بمستقبل أداء تلك الاقتصادات ستخضع للمراجعات وبشكل مستمر خلال الفترات المقبلة، وأن معظم المراجعات ستكون في اتجاه تخفيض معدلات النمو المتوقع، وتمديد الفترات اللازمة للتعافي.
ويظل كل ذلك محكوما بأمور تتعلق بمستوى الكفاءة على صعيد السياسات الاقتصادية، التي قد يتشابه دورها هنا مع دور السياسات الصحية التي عملت في بدايات أزمة كورونا على تسطيح منحنى الإصابات الجديدة بالفيروس قدر الإمكان، وتعزيز قدر الأنشطة الصحية من أجل تجنب فشلها في تحمل الضغوط، إلى أن يأخذ تفشي الفيروس في الانحسار. والأمر هنا أيضا يتعلق بقدرة السياسات الاقتصادية على تسطيح منحنى الأزمات المالية والنقدية الداخلية، وتعزيز قدرة الاقتصاد المحلي على تحمل الضغوط، إلى أن تصبح الأزمة الاقتصادية العالمية في الانحسار.